خلال عقد كامل.. كيف شكّل التقاضي سلاح المواطنين في مواجهة أزمات المناخ؟
خلال عقد كامل.. كيف شكّل التقاضي سلاح المواطنين في مواجهة أزمات المناخ؟
بعد عقد كامل من المعارك القانونية التي خاضها مواطنون ومنظمات مجتمع مدني حول العالم، باتت المحاكم اليوم لاعباً رئيسياً في فرض حماية البيئة وإجبار الحكومات وكبار الملوثين على احترام التزاماتهم المناخية، فقد أظهر تقرير جديد صادر عن شبكة دعاوى المناخ، الأربعاء، أن عشر سنوات من التقاضي قد غيّرت موازين القوة، ورسخت التزامات قانونية واضحة تلزم الدول والشركات باتخاذ إجراءات ملموسة لكبح انبعاثاتها وحماية سكانها من التبعات الكارثية للاحترار وتغير المناخ العالمي.
ويكشف التقرير أن اتساع رقعة التقاضي لم يكن حدثاً عابراً، بل نتيجة مباشرة لتراجع ثقة الشعوب في قدرة الحكومات على التصدي للتحدي المتمثل في التغير المناخي، فمعظم المواطنين حول العالم يريدون من دولهم التحرك بوتيرة أسرع لحماية المناخ، لكن جزءاً محدوداً منهم يعتقد أن الحكومات ستفي بوعودها، وفي ظل هذه الفجوة بين التوقعات والواقع، أصبحت ساحات القضاء متنفساً وحيداً للأفراد الباحثين عن العدالة المناخية، وفق وكالة أنباء الشرق الأوسط.
وتوضح شبكة دعاوى المناخ أن المحاكم المستقلة، بخلاف المؤسسات السياسية، تلتزم بالنظر إلى الوقائع استناداً إلى القوانين والمعايير الدولية لحقوق الإنسان، وهو ما منح المواطنين أداة فعالة للضغط من أجل التغيير. ما كان يبدو ضرباً من المستحيل قبل سنوات، مثل إلزام حكومة أو شركة متعددة الجنسيات بخفض انبعاثاتها، بدأ يتحول إلى واقع قانوني يتكرر في دول مختلفة.
إرث قضية أورجيندا
تعيد معظم المعارك القانونية الحالية جذورها إلى قضية أورجيندا الهولندية التي شكلت نقطة تحول عالمية، ففي هذه القضية رفعت منظمة أورجيندا، ومعها نحو ألف مواطن، دعوى ضد الحكومة الهولندية مطالبة بإجبارها على الالتزام بتخفيض الانبعاثات وضمان حماية السكان من المخاطر المناخية، وأصدرت المحكمة حكماً تاريخياً يقضي بأن فشل الدولة في اتخاذ إجراءات كافية يمثل انتهاكاً لحقوق الإنسان.
هذا الحكم فتح الباب أمام موجة عالمية من القضايا التي استلهمت حججها القانونية من تجربة أورجيندا، وبات يشكل مرجعاً للمحاكم في أوروبا وآسيا وأمريكا اللاتينية، وبفضله لم يعد من الممكن تبرير التقاعس الحكومي تحت ذريعة صعوبة وضع سياسات مناخية، أو محدودية تأثير دولة واحدة في الانبعاثات العالمية.
ومنذ التسعينيات اعتمدت الشركات الكبرى المنتجة للوقود الأحفوري على جملة من الحجج القانونية للتهرب من المساءلة. كانت تؤكد أن تغير المناخ قضية سياسية وليست قضائية، وأن دورها محدود جداً بحيث لا يمكن تحميلها مسؤولية عالمية، وأن اختيار أهداف خفض الانبعاثات حق يعود لها وحدها، إلا أن المحاكم خلال السنوات الماضية شرعت في تقويض هذه الحجج تباعاً.
توضح شبكة دعاوى المناخ أن هذه الدفاعات فقدت قوتها بسبب تراكم الأدلة العلمية وتطور القوانين البيئية، ما مهد الطريق لقضايا كبرى استهدفت شركات مثل شل وتوتال إنرجيز التي كانت تعد خارج نطاق المحاسبة. ومع تزايد الدعاوى بدأت هذه الشركات تواجه مطالبات قضائية ملزمة بخفض انبعاثاتها، بل وأحياناً بدفع تعويضات للمجتمعات المتضررة.
قضايا شكلت منعطفاً عالمياً
يستعرض التقرير سلسلة من القضايا المفصلية التي أسهمت في إعادة تشكيل المشهد القانوني، ففي باكستان رُفعت قضية في عام 2015 أمام محكمة لاهور العليا من قبل مواطن شاب يدعى أصغر ليغير؛ احتجاجاً على ضعف الإجراءات الحكومية في مواجهة آثار التغير المناخي، حكمت المحكمة لصالحه وأمرت بإنشاء لجنة وطنية معنية بتغير المناخ وبتنفيذ الاستراتيجيات المؤجلة.
وفي سويسرا خاضت مجموعة من النساء المسنات معركة قانونية ضد الحكومة، معتبرات أن تقاعس الدولة عن الحد من الانبعاثات يشكل تهديداً مباشراً لحياتهن وصحتهن. وأصدرت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان حكماً يؤيد موقفهن، في خطوة تاريخية تؤكد أن حماية المناخ جزء لا يتجزأ من الالتزامات الأساسية للدول الأوروبية.
حتى القضايا التي لم تنجح في الحصول على أحكام قضائية لصالحها، مثل الدعوى التي رفعها سكان جزر مضيق توريس ضد الحكومة الأسترالية بسبب ارتفاع مستوى البحر، أسهمت في تسليط الضوء على تهديد وجودي يواجه المجتمعات الساحلية، وأجبرت الحكومة على الاعتراف بالحاجة إلى إجراءات أكثر صرامة.
تحول الواجب الأخلاقي لالتزام قانوني
تؤكد سارة ميد المديرة المشاركة لشبكة دعاوى المناخ أن ما كان يُنظر إليه قبل عقد من الزمن باعتباره واجباً أخلاقياً أصبح الآن التزاماً قانونياً، وتشير إلى أن كبار الملوثين باتوا مطالبين بالقيام بدورهم الكامل في الجهود العالمية للحد من الانبعاثات، وأن الاستمرار في تلويث الكوكب دون محاسبة لم يعد خياراً مقبولاً.
كما يوضح دينيس فان بيركل، أحد محامي قضية أورجيندا، أن العقد الأخير شهد تشكل إطار عالمي جديد من القاعدة إلى القمة، حيث يستخدم المواطنون أدوات القانون لفرض التغيير، في حين تتراجع قدرة الحكومات والشركات على التذرع بذريعة التعقيد أو عدم القدرة.
ويكشف التقرير أن التقاضي المناخي أصبح اليوم عنصراً أساسياً في بناء منظومة قانونية تضمن الحد من ارتفاع حرارة الأرض إلى مستوى لا يتجاوز درجة ونصف، وتمنع تحول أزمات المناخ إلى تهديد شامل للحياة البشرية، كما بات يشكل ركيزة في إلزام الشركات الكبرى بتحمل مسؤوليتها التاريخية عن الانبعاثات، وإجبار الحكومات على الالتزام بالاتفاقيات الدولية.
شهد العقد الماضي تضاعفاً في عدد القضايا القانونية المتعلقة بالمناخ حول العالم، فبعد مؤتمر باريس للمناخ عام 2015 ازداد وعي المجتمعات بحقوقها البيئية، وارتفع عدد القضايا المرفوعة أمام المحاكم الوطنية والدولية ليصل إلى آلاف القضايا في أكثر من خمسين دولة، وقد أسهم تطور الدراسات العلمية حول تأثيرات المناخ، إلى جانب الأزمات المناخية المتكررة من حرائق وفيضانات وجفاف، في تعزيز حجج المتقاضين ومنحهم قوة قانونية غير مسبوقة، وتعمل عشرات المؤسسات البحثية والمنظمات البيئية اليوم على دعم هذا النوع من الدعاوى، إيماناً بأن القضاء قادر على سد الفجوة بين تعهدات الحكومات وتطبيقها الفعلي.











